إن كنت رايح كثّر المدايح
لم يكن أحد أصدقائي مرتاحاً في وظيفته، فالإدارة لم تكن تقدر عمله حسب رأيه، ولم تكن تعطه ما يستحق حسب تقديره، ولم تتعاون معه حسب وجهة نظره، فبدأ البحث عن وظيفة جديدة بعد أن قرر ألا يترك وظيفته حتى يجد أخرى، ولا أن يخبر مديره بنيته ترك العمل حتى يجد البديل.
وما أن مرت أسابيع قليلة حتى وافق على عرض عمل من شركة عرضت عليه وظيفة أفضل، براتب أفضل، وبيئة عمل أفضل، فوقع العقد الجديد وانطلق مسرعاً إلى الشركة القديمة ليقدم استقالته المطولة، التي كتب فيها ما كل ما حمله قلبه من ألم، وما تحمله سابقاً من قهر، وانتقد فعل هذا، وتذمر من ظلم ذاك، ثم ذهب إلى مديره وتحدث معه بأسلوب ساخط، ونفس غير راضية، وفضفض بكل ما خطر بباله، وهو يردد داخلة مقولة جاهل: “إن كنت رايح كثر الفضايح”، ثم خرج غاضباً بنشوة المنتصر.
بدأ الوظيفة الذي أعطته ما يريد من تقدير مالي ومعنوي، وما انفك يذكر الشركة السابقة مستهزئاً بها، ساخراً منها، وبدا وكأن الأمور كانت تسير على ما يرام، ولكن.. بعد مرور سنة تغيرت الأحوال، وساءت النتائج، وبدأت شركته الجديدة تسخط على أدائه، وتنتقد قراراته، ولم تمض إلا أشهر بعدها حتى أبلغوه فجأةً بأنهم يستغنون عن خدماته.
إن كنت رايح .. كثّر الفضايح!
اضطر صديقي لتقديم استقالته طوعاً حتى يحفظ ماء وجهه، ولكنه أيضاً هذه المرة انتقد هذا، وتظلم من ذاك، وعاملهم بأسلوب ساخط، ونفس غير راضية، وخرج من الشركة غاضباً متألماً خاسراً كل من فيها، وهو يردد داخلة مقولة جاهل: “إن كنت رايـح كثر الفضايح”.
وبعد أسابيع من بحث جديد عن وظيفة جديدة أتيحت لصديقي فرصة مقابلة شخصية لوظيفة بدت جيدة، فخاض المقابلة بكل ثقة، وبين إمكاناته وقدراته، وعدد إنجازاته ومشروعاته، وشرح أيضاً ما حدث له في وظائفه السابقة، وكيف أنه لم تتح له الفرصة للإبداع، ولم يلق التقدير المفترض.
انتهت المقابلة بنجاح – مبدئياً – ولكن صاحب العمل الجديد تشكك من وصف صديقي لشركتيه السابقتين، وقرر أن يتصل بهما ليسأل عنه، فاتصل لتأتي الردود التي لم يكن يتوقعها، فقد كانت مليئة بالانتقاد، محملة بالغضب من أدائه في العمل والتعامل، وفي الأداء والنتائج، ولم تخلو أيضاً من بعض المبالغات والإشارات إلى طريقته السيئة في ترك العمل.. ولم يذكروا صديقي بأي خير، فكانت النتيجة أن خسر فرصته الوظيفية الجديدة.
لقد خسر صديقي هذا الكثير جداً بسبب طريقته غير المبررة في ترك العمل، وأسلوبه غير المتزن في إفساد علاقاته، فقد خسر سمعته ووظيفته السابقة وفرصته الجديدة بسبب مقولة الجاهل التي كانت يتبعها بسذاجة: “إن كنت رايـح كثر الفضايح”، وكان الأحرى به لو اتبع نصيحة حكيم: “إن كنت رايح كثر المدايح”.
ماذا لو أن صديقي أنهى علاقته بعمله الأول والثاني بكل رقي واحترام، وحافظ على سمعة طيبة، وعلاقاته راقية وتركهم وهم يذكرونه بالخير، ويشكرون أخلاقه، ويقدرون اجتهاده؟ لو فعل ذلك فلربما كانت قد أتيحت له فرصة عمل جديد، أو العودة إلى عمل سابق، أو فرصة أخرى – وظيفة أو تجارية أو غيرها – بسبب علاقته الجيدة مع من عمل معهم.
“إن كنت رايح“، وأردت ترك العمل فاتركه بطريقة راقية، اتركهم وهم يذكرونك بالخير، ليس بدافع المصلحة فقط، ولكن بدافع حسن الخلق.