أتوقع أننا جميعًا على دراية حقيقية بمبدأ باريتو الذي من جملة حقائقه: أن حوالي 20% فقط من الناس يتحكمون في 80% من الأصول أو الثروة من الموارد الموجودة. تلك الظاهرة موجودة ومعروفة بالفعل.
والسؤال هو: لِمَ يحدث ذلك؟ لماذا 20% فقط أو حتى أقل من الناس، هم في غاية القوة لدرجة تحكمهم في الأصول والثروات مع تزايد ومواصلة نموها؟
هناك ثلاثة إجابات مدهشة ومتميزة لشرح تلك الظاهرة الغامضة.
سأذكرهم بالتفصيل مع الشرح، على أن أجعله بسيطًا قدر المُستطاع.
لكن في البداية يجب أن أسوق لكم هذه التعاريف:
مصطلح باريتو مشتق من اسم ويلفريدو باريتو، وهو رجل اقتصاد إيطالي عاش في الثمانينات. واكتشف ظاهرة فريدة من نوعها في وقتٍ سابق: أن في كثير من الأمور والأحداث، فإن 20% من الناس دائمًا يمتلكون 80% من الموارد.
فعلى سبيل المثال: 20% من سكان دولة ما تتناسب ثروتهم مع ثروة جميع سكان الدولة بنسبة 80%.
مثال آخر: 20% من بعض العلامات الجارية (مثل أبل وسامسونج) هي المسؤولة عن 80% من حصة السوق من صناعة معينة (الهواتف الذكية مثلًا أو سوق المحمول بشكل عام).
مثال آخر: 20% من عملاء بنك معين، يمتلكون 80% من القيمة الإجمالية للمدخرات المودعة في هذا البنك.
لماذا ظاهرة 20% تمتلك أو تتحكم في 80% تحدث؟ هناك ثلاثة عوامل تفسِّر سبب تأثير باريتو.
عامل باريتو الأول: الميزة التراكمية
يشبه العامل الأول تأثير كرة الثلج. فعندما تزداد الثروة؛ فإنها ستتراكم على نحوٍ أسرع؛ مما يسمح لها بالنمو أضعافًا مُضاعَفَة.
كذلك فإن ثروة الأغنياء ستنمو على وتيرة أسرع بكثير ممن هم أقل منهم ثروة ورفاهية؛ بسبب الميزة والفوائد التراكمية.
تخيل رجل معه 5 مليون ريال، فإنه من السهل أن يستثمر ويوسِّع أعماله التجارية، وعليه تظل ثروته في ازديادٍ ونمو. قارن ذلك مع من كانت كل ثروته ومدخراته هي 500 ألف ريال فقط؛ فإنه بالكاد يخشى أن يتوسع في أي مشروع، مما يدعوه إلى عدم استثمارهم أو قبوله بالنمو البطيء، للغاية.
الفوائد التراكمية وميزة رؤوس الأموال الحالية هي الركيزة الرئيسية التي تجعل ثروة الأغنياء في تزايد ونمو سريع، وتُمَكِّنُهم من تنوع الأعمال والنشاطات، وتوسعتها. والنهاية هي مضاعفة ثرواتهم.
لهذا السبب هم قادرون على التحكم في حصة 80% مما هو مُتاح في دولةٍ، أو مدينة، أو منطقة معينة. الميزة التراكمية جعلتهم قادرين على إنماء ثروتهم بشكلٍ كبير.
وعلى النقيض، فإن الأشخاص الذين يتقاضون راتبًا مناسبًا، فلكونه لا يتمتع بميزة تراكمية (لأن الراتب يُستَنْفَذ دائمًا في نهاية الشهر)؛ لن يحصل على تلك الرفاهية المالية لتنويع أعماله واستثماراته. أين المال للقيام بذلك؟ لا شيء.
ونتيجة لذلك، بمتوسط 80% من الناس تستمر حياتهم في حالة من الركود.
عامل باريتو الثاني: عامل الوقت
هل هناك معادلة بسيطة من أقوى الطرق في إنشاء الثروة؟ الإجابة هي: عامل الوقت.
أمثلة على عامل الوقت: شخص لديه 30 فرعًا من المطاعم، او 100 مركز تعليمي، أو لديه 100 فندق، وكان لديه 1000 وكيل/موزع، أو لديه 200 عميل من تجار السيارات. إلخ.
عامل الوقت: أنك تتمكن من مضاعفة ثروتك لأنك تملك الكثير من الفروع/الوكلاء/الموزعين.
إذا عامل الوقت يمكنه التسبب في نمو ثرواتنا على نحو كبير، ومتزايد.
مثال: يمكن لبائع الثوب الإسلامي من جَنْيِ نحو 5-10 مليون ريال شهريًا (على الأقل) إذا كان لديه 1000 وكيل مبيعات. أو مثال آخر: شاب يبيع أغطية وكوفرات الهواتف الذكية على الإنترنت، يمكنه أن يربح مئات الآلاف في الشهر، وكذلك المئات من الموزعين.
تسبب عامل الوقت في نمو الثروة أضعافًا مُضاعفة؛ يؤول إلى الاستحواذ على 80% من أصول ثروات دولةٍ ما.
وللأسف: فإن هذا العامل لا يقدره ويعمل عليه سوى 20% فقط من الناس. وهو ما يجعل أولئك الـ 20% أكثر استمرارية وابتكارًا من الـ 80% الآخرين من سكان أي دولة.
ربما كان 80% من عالمنا العربي ليسوا على علم بقيمة عامل الوقت وأنه أغلى ما يملكون. قد يدركون الأمر بعد أن تصل أعمارهم بعد الـ 50-60. أقول ربما!
عامل باريتو الثالث: تزايد الانخفاض الإدراكي عند معظم الناس (تزايد الغباء بين معظم الفقراء)
لماذا 20% فقط من الناس يزدادون ثراءً، في حين أن 80% منهم بقوا على حالهم الراكد؟
الجواب: لأن 80% من الناس، ممن يعانون من الركود المالي يصبحون أكثر غباءً على المدى البعيد.
وعلى الرغم من أن الأمر قد يبدو ملموسًا على أرض الواقع، لكن ما سبق ليس كلامي، وإنما هو نتيجة دراسة بحثية من فريق البحث مكون من عدة جامعات: هارفارد، وبرينستون، ووارويك (يمكنكم قراءة الدراسة كاملة من هنا).
كشفت الدراسة عن تلك الحقيقة القاتمة: أغلب أصحاب الدخل المنخفض تتضاءل جهودهم المعرفية وإدراكهم على نحوٍ متزايد ومستمر.
أي أن معظم أصحاب الدخل المنخفض بلغة العلم: ينخفض إدراكهم على نحوٍ متزايد. وبلغة أكثر بساطة من ذلك: يصبحون أكثر غباءً، وبشكل مستمر.
خلص الباحثون إلى أن الإدراك عن أغلب الناس (80%) يتزايد ببطء مستمر. والسبب هو تفكيره في توتر وضعه المالي ونقص السيولة، وكذلك يجهد تفكيره في غلاء المعيشة، والديون، والقروض، وخلافه.
ولأن التفكير متوتر ومُجهَد بشأن الوضع المالي وكل ما يقتصر عليه؛ فإن قوى إدراكه تتآكل ببطء واستمرار.
وعليه، فإن الإجهاد الفكري المالي واقتصاره على جزء محدود من الحياة؛ يجعل مصير الابتكار والتفكير السليم عند الناس هو الانقراض. ويفقد المرء ثباته وتحسين قدراته من أجل شيء واحد فقط، ألا وهو تحسين الدخل.
هذا هو السبب في أن 80% من هؤلاء سيبقون دومًا على ما هم عليه: الهرولة المتبادلة والتنافس للاستيلاء على بقايا الـ 20% من الأثرياء وما يتركونه من فُتاتٍ لهم.
وفي حين أن 20% من الناس يصبحون أكثر ثراءً فيما بعد بسبب تراكم ثرواتهم؛ فإنهم يواصلون استمتاعهم بنسبة 80% من الأصول والممتلكات القائمة.
الشاهد، أن هناك ثلاثة عوامل قد تفسر مبدأ باريتو. وهذه العوامل الثلاثة هي:
- عامل الميزة/الفوائد التراكمية
- عامل الوقت
- عامل تزايد الانخفاض الإدراكي عند معظم الناس
آمل أن تكونوا من ضمن الـ 20% من البشر، بدلًا من الـ 80%.
تتمة فائدة هذا الموضوع؛ في المقال المقبل، إن شاء الله تعالى.
في أمان الله.